فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)}.
الإشارة بقوله: {ذلك} إلى المتصف بالأوصاف السابقة.
قال الزجاج: ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى ابن مريم، لا ما تقوله النصارى من أنه ابن الله وأنه إله.
وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: {قَوْلَ الحق} بالنصب. وقرأ الباقون بالرفع. فوجه القراءة الأولى أنه منتصب على المدح، أو على أنه مصدر مؤكد لقال: إني عبد الله، قاله الزجاج.
ووجه القراءة الثانية أنه نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ، قاله الكسائي. وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله، والحق هو الله عزّ وجلّ. وقال أبو حاتم: المعنى: هو قول الحق.
وقيل التقدير: هذا لكلام قول الحق. وهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة مثل حق اليقين.
وقيل: الإضافة للبيان.
وقرىء {قال الحق} وروي ذلك عن ابن مسعود، وقرأ الحسن: {قول الحق} بضم القاف، والقول والقول والقال والمقال بمعنى واحد، و{الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} صفة لعيسى أي: ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون قول الحق، ومعنى {يمترون}: يختلفون، على أنه من المماراة، أو يشكوا على أنه من المرية.
وقد وقع الاختلاف في عيسى؛ فقالت اليهود: هو ساحر، وقالت النصارى: هو ابن الله.
{مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} أي ما صحّ ولا استقام ذلك، ف {أن} في محل رفع على أنها اسم كان.
قال الزجاج: {من} في {من ولد} مؤكدة تدلّ على نفي الواحد والجماعة؛ ثم نزّه سبحانه نفسه فقال: {سبحانه} أي: تنزّه وتقدّس عن مقالتهم هذه، ثم صرح سبحانه بما هو شأنه تعالى سلطانه فقال: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي: إذا قضى أمرًا من الأمور فيكون حينئذٍ بلا تأخير.
وقد سبق الكلام على هذا مستوفى في البقرة، وفي إيراده في هذا الموضع تبكيت عظيم للنصارى، أي من كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ {وَإِنَّ الله رَبّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح {أن}.
وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بكسرها، وهو من تمام كلام عيسى، وقرأ أبيّ: {إن الله} بغير واو، قال الخليل وسيبويه: في توجيه قراءة النصب بأن المعنى: ولأن الله ربي وربكم، وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض عطفًا على الصلاة، وجوز أبو عمرو بن العلاء عطفه على {أمرًا}.
{هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} أي هذا الذي ذكرته لكم من أنه ربي وربكم، هو الطريق القيم الذي لا اعوجاج فيه ولا يضلّ سالكه.
{فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ}.
{من} زائد للتوكيد، والأحزاب: اليهود والنصارى، أي فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى، فاليهود قالوا إنه ساحر، كما تقدّم، وقالوا: إنه ابن يوسف النجار، والنصارى اختلفت فرقهم فيه، فقالت النسطورية منهم: هو ابن الله.
وقالت الملكانية: هو ثالث ثلاثة.
وقالت اليعقوبية: هو الله تعالى، فأفرطت النصارى وغلت، وفرّطت اليهود وقصرت {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} وهم المختلفون في أمره {مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي من شهود يوم القيامة وما يجري فيه من الحساب والعقاب، أو من مكان الشهود فيه، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم.
وقيل: المعنى: فويل لهم من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور.
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب، فيقولون: أسمع تريد وأبصر به، أي ما أسمعه وأبصره، فعجب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم منهم {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أي للحساب والجزاء {لكن الظالمون اليوم} أي: في الدنيا {فِي ضلال مُّبِينٍ} أي واضح ظاهر، ولكنهم أغفلوا التفكر، والاعتبار والنظر في الآثار.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} أي يوم يتحسرون جميعًا، فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير {إِذْ قُضِيَ الأمر} أي فرغ من الحساب وطويت الصحف، وصار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وجملة: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} في محل نصب على الحال أي غافلين عما يعمل بهم، وكذلك جملة {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} في محل نصب على الحال {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} أي نميت سكانها فلا يبقى بها أحد يرث الأموات، فكأنه سبحانه ورث الأرض ومن عليها حيث أماتهم جميعًا {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي يردّون إلينا يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدّم مثل هذا في سورة الحجر.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {قَوْلَ الحق} قال: الله الحقّ عزّ وجلّ.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عنه في قوله: {الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} قال: اجتمع بنو إسرائيل وأخرجوا منهم أربعة نفر من كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية؛ فقالت الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، فقال: هو ابن الله، وهم النسطورية؛ فقال اثنان كذبت؛ ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله، وعيسى إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية، وهم ملوك النصارى؛ فقال الرابع: كذبت، هو عبد الله ورسوله وروحه من كلمته، وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال فاقتتلوا، فظهروا على المسلمين، فذلك قول الله سبحانه: {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} [آل عمران: 21].
قال قتادة: وهم الذين قال الله: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزابًا، فاختصم القوم، فقال المرء المسلم: أنشدكم بالله هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام وأن الله لا يطعم؟ قالوا: اللّهم نعم، قال: فهل تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام؟ قالوا: اللّهم نعم، فخصمهم المسلمون فاقتتل القوم، فذكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذٍ وأصيب المسلمون، فأنزل الله: {فَوْيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} يقول الكفار يومئذٍ: أسمع شيء وأبصره، وهم اليوم لا يسمعون ولا يبصرون. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} قال: ذلك يوم القيامة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادى يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} الآية، وأشار بيده وقال: أهل الدنيا في غفلة». وأخرج النسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه.
وأخرج ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: يوم الحسرة: هو من أسماء يوم القيامة، وقرأ {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ في جَنبِ الله} [الزمر: 56] وعلى هذا ضعيف، والآية التي استدل بها ابن عباس لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام. اهـ.

.قال سيد قطب:

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)}.
{كاف ها يا عين صاد}.. هذه الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور، والتي اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف التي يتألف منها هذا القرآن، فتجيء نسقًا جديدًا لا يستطيعه البشر مع أنهم يملكون الحروف ويعرفون الكلمات، ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثل ما تصوغه القدرة المبدعة لهذا القرآن.
وبعدها تبدأ القصة الأولى. قصة زكريا ويحيى. والرحمة قوامها. والرحمة تظللها. ومن ثم يتقدمها ذكر الرحمة: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا}..
تبدأ القصة بمشهد الدعاء. دعاء زكريا لربه في ضراعة وفي خفية: {إذ نادى ربه نداء خفيًا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيًا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرًا فهب لي من لدنك وليًا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيًا}..
إنه يناجي ربه بعيدًا عن عيون الناس، بعيدًا عن أسماعهم. في عزلة يخلص فيها لربه، ويكشف له عما يثقل كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال: {رب} بلا واسطة حتى ولا حرف النداء. وإن ربه ليسمع ويرى من غير دعاء ولا نداء ولكن المكروب يستريح إلى البث، ويحتاج إلى الشكوى. والله الرحيم بعباده يعرف ذلك من فطرة البشر، فيستحب لهم أن يدعوه وأن يبثوه ما تضيق به صدورهم. {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق، ولتطمئن قلوبهم إلى أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو أقوى وأقدر؛ وليستشعروا صلتهم بالجناب الذي لا يضام من يلجأ إليه، ولا يخيب من يتوكل عليه.
وزكريا يشكو إلى ربه وهن العظم. وحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن. فالعظم هو أصلب ما فيه، وهو قوامه الذي يقوم به ويتجمع عليه. ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا. والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل ويجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد.
ووهن العظم واشتعال الرأس شيبًا كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه وهو يعرض عليه حاله ورجاءه..
ثم يعقب عليه بقوله: {ألم أكن بدعائك رب شقيًا} معترفًا بأن الله قد عوده أن يستجيب إليه إذا دعاه، فلم يشق مع دعائه لربه، وهو في فتوته وقوته. فما أحوجه الآن في هرمه وكبرته أن يستجيب الله له ويتم نعمته عليه.
فإذا صور حاله، وقدم رجاءه، ذكر ما يخشاه، وعرض ما يطلبه.. إنه يخشى من بعده. يخشاهم ألا يقوموا على تراثه بما يرضاه. وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين وأهله الذين يرعاهم ومنهم مريم التي كان قيمًا عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه وماله الذي يحسن تدبيره وإنفاقه في وجهه.
وهو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته.. قيل لأنه يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث..
{وكانت امرأتي عاقرًا}.. لم تعقب فلم يكن له من ذريته من يملك تربيته وإعداده لوراثته وخلافته.
ذلك ما يخشاه. فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح، الذي يحسن الوراثة، ويحسن القيام على تراثه وتراث النبوة من آبائه وأجداده: {فهب لي من لدنك وليًا يرثني ويرث من آل يعقوب}.
ولا ينسى زكريا، النبي الصالح، أن يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته: {واجعله رب رضيا} لا جبارًا ولا غليظًا، ولا متبطرًا ولا طموعًا. ولفظة {رضي} تلقي هذه الظلال. فالرضي الذي يرضى ويرضي. وينشر ظلال الرضى فيما حوله ومن حوله.
ذلك دعاء زكريا لربه في ضراعة وخفية. والألفاظ والمعاني والظلال والإيقاع الرخي. كلها تشارك في تصوير مشهد الدعاء.
ثم ترتسم لحظة الاستجابة في رعاية وعطف ورضى.. فالرب ينادي من الملأ الأعلى: {يا زكريا}.. ويعجل له البشرى: {إنا نبشرك بغلام} ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشره به: {اسمه يحيى}. وهو اسم فذ غير مسبوق: {لم نجعل له من قبل سميًا}..
إنه فيض الكرم الإلهي يغدقه على عبده الذي دعاه في ضراعة، وناجاه في خفية، وكشف له عما يخشى، وتوجه إليه فيما يرجو. والذي دفعه إلى دعاء ربه خوفه الموالي من بعده على تراث العقيدة وعلى تدبير المال والقيام على الأهل بما يرضي الله. وعلم الله ذلك من نيته فأغدق عليه وأرضاه.
وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء. فإذا هو يواجه الواقع.. إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيًا، وهن عظمه واشتعل شيبه، وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته وصباه: فكيف يا ترى سيكون له غلام؟ إنه ليريد أن يطمئن، ويعرف الوسيلة التي يرزقه الله بها هذا الغلام: {قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرًا وقد بلغت من الكبر عتيًا}.
إنه يواجه الواقع، ويواجه معه وعد الله. وإنه ليثق بالوعد، ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه. وهي حالة نفسية طبيعية. في مثل موقف زكريا النبي الصالح. الإنسان! الذي لا يملك أن يغفل الواقع، فيشتاق أن يعرف كيف يغيره الله!
هنا يأتيه الجواب عن سؤاله: أن هذا هين على الله سهل. ويذكره بمثل قريب في نفسه: في خلقته هو وإيجاده بعد أن لم يكن. وهو مثل لكل حي، ولكل شيء في هذا الوجود: {قال كذلك قال ربك هو عليَّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئًا}.
وليس في الخلق هين وصعب على الله. ووسيلة الخلق للصغير والكبير، وللحقير والجليل واحدة: كن. فيكون.